الرواية بشكل عام تتضمن حكاية تروى.. وهي بالعادة حكاية لم تحدث على الإطلاق.. ومن هنا قد سبق أن قرأت مقولة “لطيفة” مفادها: أن كاتب القصة كاذب مبتديء.. أما كاتب الرواية فهو كاذب محترف. إذن الحكاية كلها “كذبة” وتختلف من ما بين القصة والرواية أنها صغيرة أم كبيرة ومن رواية لأخرى بمدى قدرة هذه الكذبة على الإقناع. ومن هنا ندرك أنه كلما زادت تفاصيل الكذبة كلما كان أصعب أن تكون مقنعة.. ومن المعروف أيضاً أن أعظم الكذب هو ذلك الذي اختلط ببعض الحقيقة. وهذا شيء يدركه دان براون بامتياز
هذه الرواية هي الثالثة له، ولا تختلف أبداً عن النمط الذي يمتاز به دان براون “التفاصيل، الأحجية والدعابة”. هي تتحدث عن مؤامرة حكومية كبيرة تشترك فيها ناسا من أجل تحسين الوضع الإنتخابي للرئيس في الإنتخابات الرئاسية القادمة. كانت بداية الرواية بشكل مثير.. وظلت تزداد الإثارة حتى وصلت الذروة لكنها ما لبثت أن وصلت حد الإبتذال في النهاية
استخدم براون تلك الأحكام المسبقة التي نملكها عن نظرية المؤامرة وتلك الطرق الملتوية لدى السياسيين كي يصلوا مآربهم وكان مبدعاً بحق في استخدامه للتفاصيل في زيادة الإقناع عند القاريء.. مستخدماً نظريات علمية في تفسير ملامح الأحجية سواء “الخداع” فيها أو كيفية كشفها. عامل الإثارة والكتابة السينمائية كانا مذهلين وكأني أشاهد فيلماً هوليوودياً.. كان الراوي يتعمد التضليل أحياناً كما فعل بين بيكرينغ وتيتش هو ليس كلي القدرة بالمفهوم المطلق له.. إنما يعطيك المعلومة بما يفيد موقعها التوظيفي في الرواية ككل.. كما أنه يستخدم تعابير تشويقية في نهاية بعض الفصول وكأنه يعرف سلفاً ما سيحدث
تتجلى موهبة براون في خلط الكذب ببعض الحقيقة كي يبدو مقنعاً.. استخدامه للنظريات العلمية مثلاً.. التفاصيل التي يسردها من “ماركات” يستخدمها شخوص الرواية؛ الغواصة تشارلوت، الهيليوكربتر “كايو”، الأسلحة المستخدمة.. وحتى المعالم المشهورة التي وظفها.. وبعض الحقائق المنثورة بين السطور من معلومات سواء عامة أو علمية تزيد من عامل الإقناع عند القاريء
من الجدير بالذكر أن والد براون كان عالم رياضيات ووالدته كانت تحترف الأناشيد الدينية.. وهنا نجد العلم يختلط بالدين عند براون. كما هو واضح في رواياته. رغم أن هذه الرواية لم تحتوِ على الدين
تخبئة الأفكار في الرواية كانت ذكية ومتقنة.. تلك العملية التي تحدث عنها بارغاس أنها عملية “ستربتيز” معاكسة حيث يتم تغطية الفكرة “الكذبة” الأساسية بدلاً من تعريتها.. رغم ذلك.. لم يبدُ لي تورط بيكرينغ مقنعاً.. رغم ذلك هذا لا يعني أنه ممكن الحدوث. كما أن النهاية وتبديل الرسائل كانت متوقعة إلى حد ما.. وهذا لا يعيبها.. لكن ما أزعجني هو تلك النهاية الكلاسيكية “باختلاء” البطل بالبطلة في النهاية فكم بدا ذلك مشهداً مستهلكاً للغاية من أفلام “جيمس بوند” !! بالمناسبة، بعض الأحداث فعلاً قد تبدو مستوحاة من أفلام هوليوود.. فشخصية كوركي العالم الفيزيائي الهزلية وهي بالعادة تلك الشخصية المضحكة التي تكون لتخفف التوتر في أفلام الأكشن
باختصار، رواية جميلة وذكية وأسلوب أكثر من رائع للكاتب رغم أن النهاية كانت مخيبة إلى حد كبير